أحمد الألفى يكتب: النوادى الدولية للديون المتعثرة

أحمد الألفى

تاريخيًا ترجع فكرة نشأة نوادى الديون الدولية الى عام  1956 حيث تبنى بيير فيليملين وزير المالية الفرنسى حينذاك ترتيب و ترأس اجتماعات بمقر وزارة المالية الفرنسية بباريس تضم ممثلين لكل من صندوق النقد الدولى ،وحكومات الدول الدائنة و الدول المدينة المتعثرة فى سداد الديون المستحقة عليها.

وتعد الأرجنتين أول دولة مدينة فى العالم تمثل أمام دائنيها فى أولى إجتماعات نادى باريس (Club de Paris) ،ثم توالت هذه الاجتماعات خلال السنوات التالية لعام 1956،وأصبحت تعقد بشكل دورى ومنتظم حتى أصبح نادى باريس أحد الأذرع الرئيسية لصندوق النقد الدولى IMF. و يختص نادى باريس بالنظر فى علاج و تسوية الديون الحكومية أو السيادية للدول ،بمعنى أن يكون كل من الدائن و المدين حكومة أو دولة.

وترجع العلة من وراء نشأة نادى باريس كنادى دولى للديون الحكومية الى رغبة كل من صندوق النقد الدولى و الحكومات الدائنة فى إضفاء مزيد من السرية والكتمان على كافة إتفاقات ومفاوضات تسوية الديون السيادية بعيداّ عن كل من المجالس النيابية و الرأى العام للدول المدينة لضمان إملاء كافة شروط الدول الدائنة على الدول المدينة لجدولة ديونها إعمالاّ لمبدأ المشروطية الذى ينتهجه صندوق النقد الدولى سواء عند منح القروض لعملائه من الدول المدينة و / أو عند جدولة أو إعادة جدولة ديون عملاؤه من الدول المدينة.

وبرغم أن نادى باريس لا يعد كياناّ رسمياّ لتسوية الديون الحكومية المتعثرة على الصعيد الدولى ،و ذلك على أساس عدم وجود إتفاقية أو سند قانونى لتأسيسه و يحكم نظم عمله و إختصاصاته بشكل رسمى ،إلا أنه يتمتع بنفوذ و تأثير و فاعليه كبيرة تضاهى وربما تفوق صلاحيات و نفوذ الكيانات الرسمية الدولية التى تمارس صلاحياتها بموجب إجازات رسمية مانحة للشرعية القانونية ،وبرغم إنتفاء إلاطار القانونى لنادى باريس،إلا إنه يستمد شرعيته الدولية من شرعية صندوق النقد الدولى ،الذى يمارس عمله فى إطار إتفاقية بريتون وودز التى أوجدت كل من البنك و صندوق النقد الدوليين و فرضتهما على العالم فرضًا.

ويرجع ذلك الى حصول صندوق النقد الدولى على مقعد دائم فى أى إجتماعات أو مفاوضات لتسوية ديون أى دولة فى العالم حتى لو كانت غير مدينة لصندوق النقد الدولى ،فصندوق النقد الدولى هو كابتن الفريق الدائن ،وهو أيضاّ حكم المباراة فى نادى باريس ،و حتماّ لن تكون نتيجة المباراة فى صالح الفريق المدين حتى لو أحرز مئات الأهداف ،فهو خاسر خاسر لا محال ! و تكشف اّواصر هذه العلاقة التاريخية القديمة بين كل من صندوق النقد الدولى ووزارة المالية الفرنسية ( الراعى الرسمى لنادى باريس ) النقاب عن سر إحتكارالفرنسيين لتقلد منصب رئيس صندوق النقد الدولى.

ويفسر ذلك سبب تولى كريستين لاجارد هذا المنصب حالياّ برغم سبق إدانتها بالفساد وإعتبارها شاهد ملك فى القصية عندما كانت تشغل منصب وزيرة مالية فرنسا ،ويخضع شغل منصبى كل من رئيس البنك و صندوق النقد الدوليين لإتفاق جنتلمان ضمنى وغير معلن يقضى بإستحواذ الولايات المتحدة الامريكية على منصب رئيس البنك الدولى ،واستحواذ أوروبا على منصب رئيس صندوق النقد الدولى ،وذلك منذ تأسيس هاتين المؤسستين الماليتين الدوليتين الأكثر نفوذاّ وتأثيراّ فى النظام المالى الدولى المعاصر.

وبرغم إستحواذ أوروبا على منصب رئيس صندوق النقد الدولى ،إلا أن فرنسا تعد الأكثر إستحواذاّ على هذا المنصب مقارنة بباقى دول أوروبا ،وبرغم سبق إقالة رئيس صندوق النقد الدولى دومينيك ستروس الفرنسى الجنسية أيضأ ( سلف كريستين لاجارد ) فى أعقاب اتهامه بالتحرش الجنسى بعاملة فى فندق بنيويورك ,و صدور كتاب عن فضائحه الجنسية بعنوان الجميلة والوحش ، إلا أن هذا التقليد فى تولى المناصب على أساس الجنسية ما زال قائماّ ،طالما يتقن المسئول عمله فى التحرش المالى بدول العالم الغارقة فى الديون السيادية!!

ويستمد نادى باريس نفوذه المالى العالمى بإعمال شرط المشروطية ،والذى يعنى إمتثال الدولة المدينة و تنفيذها لجميع الشروط التى تمليها عليها كل من الدول الدائنة وصندوق النقد الدولى، وغالبًا ما تتضمن الشروط التالية:-

  • تخفيض ميزانية الرعاية الصحية و الاجتماعية
  •  تخفيض دعم السلع و الخدمات
  • خصخصة الشركات و الاّصول العامة
  • تخفيض قيمة العملة المحلية و تحرير أسواق الصرف
  • زيادة الضرائب المباشرة و غير المباشرة
  • تخفيض الجمارك و إزالة القيود الاستيرادية
  • تقليص عدد موظفى الدولة
  • تحجيم تدخل الدولة فى الاقتصاد
  • تحرير القطاع المالى و خصخصة البنوك
  • منح الاستثمارات الأجنبية إمتيازات سخية وتمثل حزمة الشروط السالفة الذكر مبادئ المدرسة الليبرالية الحديثة فى الإقتصاد الرأسمالى .

وترتكز أفكار و مبادئ هذه المدرسة على تهميش دور الدولة فى الإقتصاد لخدمة رأس المال ،حيث تجسد شراسة الرأسمالية فى أبشع صورها ،ويطلق على هذه الشروط فى الصحافة الإقتصادية روشته صندوق النقد الدولى والتى يصرفها لأى مريض بداء الديون ،وبطبيعة الحال لم تفلح فى علاج أي مدين من مرضاه لأنه يعالج مريض الأنيميا الحادة برجيم غذائى صارم !! فإذا إمتثلت الدولة المدينة لشروط كل من النادى والصندوق ،يتم منحها شهادة جدارة ائتمانية ،وتعد هذه الشهادة بمثابة شهادة حسن سير وسلوك مالى،و تسهل هذه الشهادة للدولة المدينة المطيعة الحصول على المزيد من الائتمان والقروض من الأسواق المالية الدولية،كما تساعدها أيضاّ فى تحسين مرتبة تصنيفها الائتمانى.

أما اذا خالفت الدولة المدينة شروط كل من النادى والصندوق فيتم منحها شهادة سوء سير و سلوك مالى مما يحد كثيراّ من إمكانيات حصولها على الائتمان من الأسواق المالية الدولية ،و يؤدى الى تخفيض مرتبة تصنيفها الائتمانى تأثراّ بالتقارير المالية السلبية التى ينشرها الصندوق بصفة دورية عن الأداء المالى لعملائه من الدول المدينة ،وهكذا يمارس كل من نادى باريس و صندوق النقد الدولى نفوذهما المالى على الدول المدينة التى خرجت عن بيت الطاعة المالية لهما!

وتمتلك 20 دولة دائنة العضوية الدائمة فى نادى باريس ،و هذه الدول على سبيل الحصر هى :- 1- الولايات المتحدة 11 – المملكة المتحدة 2- فرنسا 12- المانيا 3- سويسرا 13- ايطاليا 4- هولندا 14- بلجيكا 5- النمسا 15-اسبانيا 6- الدنمارك 16- السويد 7- فنلندا 17- ايرلندا 8- النرويج 18- كندا 9- روسيا 19- اليابان 10- استراليا 20- اسرائيل

ومن المفارقات الجديرة بالذكر خلو قائمة الدول دائمة العضوية فى نادى باريس من الدول العربية الغنية برغم تمتعها بالتخمة المالية ،بينما تضم القائمة اسرائيل اّخر الدول المنضمة للقائمة مؤخراّ فى عام 2014.

ويرجع سبب سعى اسرائيل الحثيث للحصول على العضوية الدائمة فى نادى باريس الى توسيع نفوذها الاقليمى ماليا وإقتصاديا وسياسيا لوجود عدة دول عربية مدينة بديون سيادية لصندوق النقد الدولى ،ومنها مصر ،إلا أن مصر بحرصها الدائم على الانتظام فى سداد أقساط ديون نادى باريس ،قد أغلقت على اسرائيل أى إحتمالية لإمكانية شرائها لديون مصر للتأثير على قرارها السياسى.

كما خلت القائمة أيضا من الصين برغم إمتلاكها لأكبر إحتياطيات نقدية فى العالم تبلغ 4 تريليون دولار أمريكى ،ويرجع ذلك لأنها دولة ذات إيدولوجية إقتصادية و مالية مختلفة عن إيدولوجية نادى باريس و صندوق النقد الدولى ،فهى تتعامل مع الدول المدينة لها مباشرة بدون سماسرة ولا سطاء ولا وكلاء دائنين دوليين كنادى باريس .

أما عن الدول المدينة من عملاء نادى باريس فيبلغ حوالى 50% من دول العالم من قارات أفريقيا وآسيا وأوربا وأمريكا الجنوبية ،ويبلغ عددها حوالى 100 دولة من دول العالم الغارقة فى مذلة الديون نهاراّ وفى همها ليلاّ .

وتتنوع اّليات علاج وتسوية الديون الحكومية أو السيادية للدول المدينة ,وذلك بإستخدام الأساليب التالية :-

  • إعادة جدولة الديون المتخلفة( المستحقة ) الدفع وفقاّ لاّجال إستحقاق جديدة. . تخفيف عبء الديون بتخفيض الفوائد.
  • شطب جزئئ لديون بعض الدول المدينة.
  • شراء وبيع الديون السيادية ،ويعني إحلال دولة دائنة محل دولة دائنة أخرى فى ذات الدين و/ أو إحلال نادى باريس كدائن محل الدولة الدائنة أو محل عدة دول دائنة مقابل خصم نسبة مئوية من قيمة الدين بموجب إتفاق بين إدارة نادى باريس و الدولة الدائنة التى ترغب فى بيع الدين لدولة أخرى ،حيث تقوم الدولة الدائنة بائعة الدين بتحصيله نقداّ من الدولة مشترية الدين مخصومأ منه نسبة الخصم المئوية المتفق عليها.

ولكن الدولة المدينة تلتزم بسداد إجمالى الدين متضمناّ نسبة الخصم و لا يحق للدولة المدينة الإعتراض على بيع ديونها لأى دائن اّخر ،فعليها أن تمتثل لدائنيها الجدد و إلا سيكون مصيرها منحها شهادة نشوز مالى.

وقد يتطور الأمر لأبعد من ذلك بوضعها تحت الوصاية المالية الدولية والجدير بالذكر فى هذا السياق ،أن جانباّ من ديون مصر قد خضع لعملية بيع وشراء حيث إشتراه نجل الرئيس المخلوع من دائنى مصر نقداّ وحصل على خصم برعاية كل من نادى باريس و مسئولين مصرفيين بارزين و رفيعى المستوى!

وتعد اليابان الدولة الدائنة الوحيدة المحترمة فى قائمة الدول الدائنة العشرين الدائمة العضوية فى نادى باريس حيث تحظر تشريعاتها و قوانينها الإتجار بالديون السيادية بيعاّ و شراءاّ ،فهى حقاّ دولة جديرة بالإحترام ,فلا تتاجر باّلام و ديون الشعوب المدينة والبائسة التى تاجر أبنائها بديونها على النحو الذى كشفه إستقصاء القرن الصحفى المعروف بإسم أوراق بنما panama papers .

وغارت لندن من غريمتها باريس ،فقررت أن يكون لها هى الأخرى نادياّ لتسوية الديون الدولية المتعثرة لتحظى بدورها بجانب من النفوذ و التأثير و الهيمنة المالية الكونية لكونها من أكبر و أعرق الأسواق المالية الدولية ،حيث أسست نادى لندن بعد عدة سنوات من تأسيس نادى باريس ،إلا إنه قد باشر أعماله فعلياّ فى عام 1976 بعقد عدة إجتماعات فى لندن لبحث جدولة الديون الخاصة المتعثرة لدولة زائير.

و يختص نادى لندن بالنظر فى علاج و تسوية الديون الخاصة أو التجارية للدول ،بمعنى أن يكون الدائن بنوك تجارية دولية و المدين حكومة أو دولة، و عادة ما تكون هذه الديون غير مغطاه بضمانات أو كفالات حكومية من الحكومات المدينة.

ولا يختلف نادى لندن عن نادى باريس فى كون كل منهما كياناّ غير رسمى بدون سند إنشاء قانونى ،لكنهما يستمدان شرعيتهما من الشرعية القانونية لصندوق النقد الدولى ،و ذلك على النحو المشار إليه اّنفاّ . ويضم نادى لندن حوالى 600 بنك من البنوك التجارية لدول العالم الأول والتى تمنح القروض للحكومات وللدول بإعتبارها مديناّ تجارياّ شأنها فى ذلك كشأن أى شركة تجارية خاصة تقترض من البنوك لتمويل أنشطتها المختلفة ،كما يضم نادى لندن فى عضويته عدة مؤسسات مالية دولية فى مقدمتها صندوق النقد الدولى و مجموعة دول الثمانية G8.

ويلاحظ أن صندوق النقد الدولى يجمع بين عضوية كل من نادى لندن و نادى باريس ،فهو الراعى الرسمى لإغراق الدول فى مستنقع الديون المتعثرة تحت مسمى براق هو الإصلاح – عفواّ الإفساد – المالى و الإقتصادى!

وتكمن أوجه الإختلاف بين نادى باريس و نادى لندن بالنسبة لاّليات تسوية الديون الدولية المتعثرة فى الجوانب التالية:- 1- يتبنى نادى لندن الفكر الوقائى فى تسوية الديون الدولية المتعثرة ،حيث يسمح للدولة المدينة بإعادة جدولة ديونها قبل أن تتفاقم و تعجز الدولة عن السداد ،بعكس نادى باريس الذى لا يسمح بإعادة جدولة ديون الدولة المدينة إلا إذا غرقت فى الديون و تفاقم العجز فى كل من موازناتها العامة و ميزان مدفوعاتها.

ويرجع هذا الإختلاف إلى الخلفية المصرفية لأعضاء نادى لندن لكونهم من رجال البنوك ،وإلى الخلفية الحكومية لأعضاء نادى باريس لكونهم موظفين حكوميين.

2- يطبق نادى باريس مبدأ المشروطية على أعضائه المدينيين الذين يتعين عليهن التطبيق المسبق لبرنامج الإصلاح الإقتصادى الذي يفرضه عليها صندوق النقد الدولي.

بينما لا يفرض نادي لندن هذا الشرط على أعضائه المدينيين ،ومن ثم لا يطبق نادى لندن مبدأ المشروطية .

3- يتفاوض نادى باريس على كل من أصل الدين و الفوائد ،ومن الممكن التنازل عن الفوائد أو عن جزء منها ،أما نادى لندن فلا يتفاوض على التنازل عن أى جزء من الفوائد ،ويقوم بعملية تدوير القروض ،و تعنى منح قروض جديدة لسداد القروض القديمة المستحقة و/ أو فوائدها ،و يرجع هذا الإختلاف فى المعالجة ،إلى أن أموال البنوك الأعضاء فى نادى لندن هى أموال مودعين و ذات تكلفة على البنوك.

أما أموال الأعضاء فى نادى باريس فهى أموال حكومية أو أميرية ليس لها تكلفة ،أى مال عام أى مال سايب !. وبلغة كرة القدم ،يجمع صندوق النقد الدولى بين أدوار الكابتن و المدرب و الحكم captin & coach ,referee فى كل المباريات التى يلعبها نادى لندن و نادى باريس مع الدول المدينة على ملاعب غير محايدة ،و بدون جمهور من مشجعي الدول المدينة .

لذلك تكون نتيجة المباريات معروفة مقدماّ ،ألا وهى الهزيمة الساحقة لجميع فرق الدول المدينة ،وبرغم هزيمتها تحصل على كأس العالم فى الديون! و نحن بدورنا نرفع الكارت الأحمر لكل من نوادى صندوق الديون الدولي وحكامه ومدربيه و مشجعيه لمغادرة ملاعب الغارمين !!

CNA– مقال بقلم،، أحمد الألفى (الخبير المصرفى والمدير بأحد البنوك)

موضوعات ذات صلة
أخبار كاش