مقال .. الشمول المالي تحت خط الفقر

ELALFY 234
أحمد الألفى

يعرف الشمول  المالى financial  inclusive بأنه اتاحة الخدمات المالية والمصرفية لجميع فئات المجتمع  بمختلف شرائح الدخول بتكلفة معقولة وبجودة عالية وبانتشار جغرافى كبير، وتتضمن هذه الخدمات المالية و المصرفية خدمات المدخرات و الائتمان القصير و الطويل الأجل و التأجير التمويلى و تحويل المرتبات و التأمين و الرهون العقارية  للمساكن و بطاقات الائتمان و التحويلات المالية المحلية و الخارجية ، وما الى ذلك من خدمات مالية و مصرفية متعددة سواء كانت تقليدية أو رقمية.

وانشغلت الأوساط المالية والمصرفية مؤخرًا بموضوع الشمول المالى , وذلك فى أعقاب نشر كل من البنك الدولى و الأمم المتحدة احصائيات عالمية تبين أوجه القصور فى  عدم حصول معظم سكان العالم على الخدمات المالية و المصرفية، ولا سيما فى العالم العربى ،حيث يحصل حوالى 18% فقط من السكان على الخدمات المالية و المصرفية بينما لا يحصل السواد الأعظم من السكان و بنسبة 82% على الخدمات المالية و المصرفية.

أى أن حوالى خمس السكان العرب فقط  يتعاملون مع البنوك و لديهم حسابات مصرفية , بينما أربعة أخماس السكان العرب – أى الغالبية العظمى منهم  – لا تعرف التعامل مع البنوك و ليس لديها حسابات مصرفية , هذا على مستوى العالم العربى.

أما على المستوى العالمى  فان الوضع لا  يختلف كثيرا عنه فى العالم العربى الكبير من المحيط الى الخليج , فطبقًا  لأرقام البنك الدولى فإن نصف البالغين في أنحاء العالم، أى حوالى 2.5 مليار نسمة، لا يحصلون على خدمات مالية و مصرفية  بالإضافة إلى أن 75 % من الفقراء لا يتعاملون مع البنوك بسبب ارتفاع التكاليف و بُعد المسافات والمتطلبات المعقدة  في معظم الأحيان لفتح حساب  مصرفى , وبالتالي لا يدخر سوى نحو 25 % من البالغين في العالم الذين يكسبون أقل من دولارين للفرد الواحد  يوميًا  أموالهم في مؤسسات مالية  رسمية .

ومع تحفظنا الشديد على حد الدولارين الواحد  كمقياس و كحد  دولى  لخط الفقر , فعند هذا الحد أو الخط  الذى لا يمكن أن يسمح  بأى هامش من الأدخار  ببساطة  شديدة  لأنه بمثابة حد  كفاف لا يكفى أو قد يكفى بالكاد  لاشباع  الحاجات الاساسية لمجرد بقاء الانسان على قيد أوعلى هامش الحياة  من جهة.

ومن جهة أخرى فان معظم هؤلاء القابعين على خط الفقر أو دونه لديهم أسر وعائلات ينفقون عليهم  من  هذين الدولارين  , فاذا كان قوام الأسرة المعيلة  بدولارين  يوميا أربعة أفراد  مثلا , فان خط  الفقر الدولى هذا  يهبط الى نصف دولار فقط  للفرد يوميا  , وعلي هذا الفرد أن يبادر بفتح حساب مصرفى يدفع عليه للبنك عمولة تدنى الرصيد ليحقق الشمول المالى و يفيد الاقتصاد ! ليحقق  الشمول المالى الهدف الذى  فشل البنك الدولى  فى تحقيقه على مدى ستة عقود ألا وهو القضاء على الفقر العالمى , وما البنك الدولى و توأمه صندوق النقد الدولى الا رعاه دوليين لانتشار رقعة الفقر العالمى.

و أسفر هذا الانشغال عن عقد عدة مؤتمرات داعمة  و محفزة  للشمول المالى فى العالم العربى اعمالا  للاعلان العالمى للأمم المتحدة لحقوق الانسان والذى تضمن الحق فى الحصول على الائتمان باعتباره حقا اصيلا من حقوق الانسان , و دائما ما تعرب الأمم المتحدة عن قلقها و أرقها الدائم من جراء عدم حصول 2.5 مليار نسمة فى العالم على حقوقهم  الطبيعية  فى كل من  الائتمان  و الخدمات المصرفية , حتى  بات الحق فى  اتاحة الشمول المالى للشعوب يؤرق الامم المتحدة  بدرجة  أرق  تعادل – وربما تفوق –  درجة أرقها  و قلة  نومها ازاء عدم انتشار السلام العالمى و لا سيما فى فلسطين !!.

و يشارك البنك الدولى الأمم المتحدة فى هذا الأرق العالمى الكبير بسبب  خروج 2.5 مليار نسمة من دائرة الشمول المالى , ولكن لا يؤرقهما على الاطلاق انتشار رقعة الفقر بسبب النهب المنظم للموارد من الجنوب الى الشمال واستضافة بنوك الشمال لأموال كافة الحكام الفسدة للجنوب برعاية دولية و أممية!!

و بعيدا عن الأرق المزمن للأمم المتحدة و البنك الدولى فمن الناحية الاقتصادية المجردة , يحقق  تعزيز الشمول المالى على مستوى الأقتصاد الكلى  للاقتصاد عدة مزايا  و وفورات اقتصادية كبيرة محفزة و داعمة للنمو الاقتصادى عن طريق دوران  الأموال  داخل المنظومة المالية و المصرفية  و تحويل المجتع  من مجتمع  نقدى  يتعامل بالنقود عدا و نقدا  الى مجتمع غير أو لا نقدى يتعامل بأدوات الدفع المالية و المصرفية.

وفى سبيل  تعزيز الشمول المالى قامت عدة دول باتخاذ اجراءات  اصطناعية  لتوسيع قاعدة المتعاملين مع القطاعين المالى و المصرفى من أهمها ميكنة مرتبات  العاملين  بتحويلها  للبنوك  لصرفها من ماكينات الصارف الألى التى تشهد تكدسا  كبيرا فى أيام صرف المرتبات , وذلك لعدم كفاية البنية الأساسية  التكنولوجية المصرفية لخدمة هذا العدد الكبيرمن عملاء الشمول المالى الجبرى!.

ومن أهم العوامل المقيدة للشمول المالى فى الدول النامية ، العوامل التالية:-

1- تدنى مستويات الدخول الفردية

تعانى الدول النامية من انخفاض الناتج القومى المحلى الأجمالى , ومن ثم تراجع متوسط نصيب الفرد من الدخل القومى و انخفاض فى مستويات المعيشة , و يتبلور ذلك فى تراجع معدلات الادخار القومى لعدم كفاية الدخل للمتطلبات المعيشية لغالبية السكان , ولا سيما فى المناطق غير الحضرية , لذلك تنعدم امكانيات تعاملهم مع البنوك و المؤسسات المالية بشكل عام بسبب عدم كفاية الدخول.

2- الاختلال و عدم العدالة فى توزيع الدخل القومى

وفضلا عن  تدنى مستويات الدخول الفردية عدم العدالة فى توزيع الدخل القومى فى الدول النامية  , فان عدم العدالة فى توزيع الدخل القومى تظهر جليا  فى هذه الدول مقارنة بالدول المتقدمة , حيث تستأثر قلة بالدخول المرتفعة و تترك الفتات لغالبية السكان , ولا تعرف هذه المجتمعات الحد الأدنى و لا الحد الأقصى للأجور كاّلية للحد من الاختلالات فى توزيع الدخل القومى, لذا تكون الفرصة شبه معدومة أمام الغالبية العظمى من السكان للتعامل مع البنوك الذى يتطلب حد أدنى من المال لا تتيحه لهم  دخولهم بشكل عام.

3- ارتفاع معدلات الفقر و العوز

ولقد أسفر كل من  تدنى مستويات الدخول الفردية و عدم العدالة فى توزيع الدخل القومى فى الدول النامية عن تزايد معدلات الفقر فى هذه الدول بشكل كبير , حيث يقع حوالى 50 % من السكان تحت خط  الفقر الدولى  و المحدد دوليا  بأقل من  دولارين  فى اليوم  – دون التفرقة بين مجتمع و اّخر و لا اقتصاد  و اّخر –  ويؤدى ارتفاع معدلات الفقر الى ندرة المال المؤهل  للتعامل مع البنوك و المؤسسات المالية بلا شك .

4- ارتفاع معدلات البطالة

تسجل معدلات البطالة بالدول النامية معدلات مرتفعة للغاية مقارنة بالدول المتقدمة , حيث يعجز الاقتصاد عن خلق الوظائف بسبب قصور الادخار المحلى و عدم كفايته لتمويل الاستثمار المحلى اللازم لتوليد فرص العمل الجديدة من جهة , ومن جهة أخرى لا يستوعب القطاع  الاقتصادى الأولى العمالة المحلية بالكامل , و يترتب على ذلك وجود شريحة كبيرة  عاطلة من قوة العمل ليس لها دخل , ومن ثم لا يمكن أن تتمتع بالخدمات المالية و المصرفية لانعدام الدخل.

5- ارتفاع معدلات التضخم

تسجل الدول النامية معدلات  تضخم مرتفعة للغاية مقارنة بالدول المتقدمة , ويختلف التضخم فى الدول النامية عنه فى الدول المتقدمة فى كونه تضخم هيكلى ناشئ أساسا بسبب الاختلال فى الهيكل الاقتصادى بهذه الدول و الاعتماد المفرط على القطاع الأولى ( الزراعة و الصناعات الاستخراجية ) .

بينما يعد التضخم فى الدول المتقدمة مجرد ظاهرة نقدية تنشأ بسبب زيادة التيار النقدى على التيار السلعى فى الاقتصاد ’ لذلك يمكن احتوائها  دائما بادوات السياسة النقدية المتعارف عليها , لذلك تكون معدلات التضخم فى الدول المتقدمة أقل بكثير من مثيلتها فى الدول النامية , و تؤدى معدلات التضخم  المرتفعة فى الدول النامية الى تراجع  القوة الشرائية لعملاتها و تفضيل الاستهلاك على الادخار نظرا للتراجع المستمر فى قيمة العملات المحلية بفعل معدلات التضخم  المرتفعة التى تحد كثيرا من  وظائف النقود كمستودع للقيمة , لذلك تحد معدلات التضخم  المرتفعة فى الدول النامية من تمدد الشمول المالى.

6- زيادة حجم الاقتصاد غير الرسمى

يبلغ حجم الاقتصاد غير الرسمى فى الدول النامية حوالى 50% من حجم الاقتصاد , حيث يعادل حجم الاقتصاد الرسمى فى بعض الدول , و يفوق فى بعض الدول حجم الاقتصاد الرسمى بمساحة  كبيرة تبلغ فى بعضها 70% من حجم النشاط الاقتصادى , بينما لا يتجاوز حجم الاقتصاد  غيرالرسمى فى الدول المتقدمة 20% من حجم النشاط الاقتصادى.

و بطبيعة الحال لا يروق  للاقتصاد غير الرسمى التعامل مع البنوك و المؤسسات المالية لأنه اقتصاد يكره الأوراق و المستندات و لا يحب أن يكشف عن هويته أبدًا , لذلك فان اتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمى فى الدول النامية يعد بمثاية حجر عثرة أمام كافة استراتيجيات الشمول المالى.

7- ضعف مؤشر الكثافة المصرفية

تقاس الكثافة المصرفية بمؤشر عدد الفروع  و / أو الوحدات لكل  عشرة آلاف نسمة من السكان  , ففى الدول النامية  يكون مؤشر الكثافة المصرفية  ضعيفا للغاية ,  حيث يتوفر لكل خمسين أو ستين ألف – و ربما مائة ألف – نسمة من السكان فرع لبنك أو وحدة  مصرفية , بينما المؤشر الطبيعى أن يكون لكل عشرة آلاف نسمة من السكان  وحدة  مصرفية  أو فرع لبنك.

لذلك يرتبط مؤشر الكثافة المصرفية  بالشمول المالى بعلاقة طردية مؤكدة , فكلما  زادت وانتشرت وحدات البنوك و فروعها , كلما زاد مستوى الشمول المالى و العكس صحيح تماما , لذلك يعد ضعف مؤشر الكثافة المصرفية عائقا  للشمول المالى.

8- ارتفاع درجة التركز المصرفى  و الجغرافى  للبنوك

حيث تستحوذ عدة بنوك كبيرة على أكثر من 50 % من السوق المصرفى من جهة , ومن جهة أخرى تتركز معظم فروع البنوك ووحداتها المصرفية فى الأحياء و المناطق الأعلى دخلا و يندر تواجدها فى الأحياء و المناطق الاقل  دخلا  أو ذات الدخول المتوسطة , وهذا التركز يعوق الشمول المالى بتكدس المعاملات فى بنوك قليلة  و حرمان البنوك الصغيرة الأخرى منها من جهة , ومن جهة أخرى يكرس  التواجد المصرفى جغرافيا  فى الأحياء الغنية و يهمل الأحياء و المناطق الأقل دخلا.

9- ارتفاع معدلات الاعالة

تعانى العديد من الدول النامية من مشكلات سكانية كبيرة , لا تقتصر على زيادة السكان أو الانفجار السكانى فحسب , بل تتضمن عادات  و تقاليد موروثة مثل كثرة الانجاب , ومن ثم يكون عدد أفراد الأسرة كبيرا , و يرتفع معدل الاعالة فى الاقتصاد , و فى ظل انخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومى وانخفاض فى مستويات المعيشة فى  الدول النامية يكون دخل العائل غير كاف للانفاق على عدد المعالين الكبير , ومن ثم تنعدم الفرص أمام هؤلاء للحصول على الخدمات المالية و المصرفية لعدم كفاية الدخل بسبب ارتفاع معدل الاعالة.

10- ضعف الوعى و الثقافة المصرفية

يعد ضعف الوعى و الثقافة المصرفية  بمثابة العامل الأقل تأثيرا لأنه عامل غير هيكلى , لذا يمكن معالجته  و احتوائه بالحملات الاعلانية

و برغم هذه المعوقات التى تحد من تمديد الشمول المالى فى الدول النامية , الا أنه خلال السنوات القليلة الماضية قد ظهرت أنماط مختلفة من مُقدِّمي الخدمات المالية تتيح إمكانيات جديدة للفقراء من غير المتعاملين مع البنوك , وتتضمن هذه الجهات  منظمات غير حكومية، وجمعيات تعاونية، ومؤسسات لتنمية المجتمعات المحلية، وبنوك تجارية وحكومية، وشركات تأمين وشركات بطاقات الائتمان، فضلا عن مقدمي الخدمات السلكية واللاسلكية والتحويل البرقي، ومكاتب البريد، وغيرها من الأنشطة التي تتيح الوصول إلى منافذ البيع , و احتواء قطاع كبير من الفقراء بادراجهم ضمن الشمول المالى المأمول.

ولكن يبقى اتساع رقعة الفقر و انخفاض – و ربما انعدام – الدخول  بمثابة العائق الرئيسى للشمول المالى , فالحديث عن الشمول المالى فى ظل محدودية الدخول و عدم العدالة فى توزيعها سراب كبير لن يتححقق بالمؤتمرات و لا بغيرها , وأخيرا لن يتحقق الشمول المالى الا بمحو أسباب عدم تحققه و فى مقدمتها عدم وجود الدخول أو تدنيها.

CNA– مقال بقلم ،، أحمد الألفى ،الخبير المصرفى

[box type=”info” ]الكاتب .. مصرفى يعمل مديرًا بأحد البنوك المصرية .. له مؤلفات عديدة فى المجالات المصرفية والمالية[/box]

موضوعات ذات صلة
أخبار كاش