مقال .. منتدى دافوس .. معرض الرأسمالية “المتوحّشة”

 

ELALFY 234
أحمد الألفى

لم تعد مدينة دافوس السويسرية الصغيرة مجرد مقصدًا  للأثرياء والمشاهير المرضى بأمراض الرئة والسل طلبا للعلاج الطبيعي بسحر المناخ الفريد للوادي المرتفع المحيط بها , ولا مركزا عالميا للتزحلق على الجليد  فحسب ،بل أصبحت منذ  تأسيس منتدى دافوس الاقتصادى العالمى فى عام  1971 بواسطة استاذ الاقتصاد كلاوس شواب بمثابة منتدى عالمى لألة الرأسمالية العالمية من شركات متعددة الجنسيات وبنوك عالمية ومؤسسات تمويل دولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين

فضلاً عن منظمة التجارة العالمية الراعى الرسمى للعولمة التجارية وطمس الخصوصية الاقتصادية للأمم الأقل نموًا، ولا يقتصر الحضور العالمى المكثف على أقطاب الرأسمالية العالمية فقط ، بل ينضم اليهم أقطاب السياسة ورؤساء الحكومات والوزراء، وبعض منظمات المجتمع المدني المختارة إلى جانب بعض المحامين والصحفيين والأكاديميين الليبراليين المختارين بعناية فائقة .

و برغم أن الهدف المعلن للمنتدى هو مناقشة  المشكلات الاقتصادية والسياسية التى تواجه العالم وكيفية طرح الحلول لها ، الا أن الهدف غير المعلن للمنتدى يكمن فى دوره التعبوى للسياسات الليبرالية الجديدة لكل من البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والتي تستهدف أساسا  خصخصة الخدمات الأساسية وتحريرالسوق وطحن الفقراء بخلق مناخ يسمح بحرية تدفق كل من الاستثمار والتجارة الدولية.

ويأتى دور السياسيين  فى إعداد التعبئة السياسية اللازمة لاقرار الاصلاحات السياسية المؤدية الى الانفتاح والاندماج الاقتصادي لكافة دول العالم النامية و الفقيرة فى النظام الاقتصادى العالمى و ازالة كافة الحواجز التى تعوق نفاذ و سيطرة الاستثمار العالمى على مقدرات وأسواق هذه الدول،حيث تنزعج الألة الرأسمالية العالمية كثيراّ من وجود الحواجز والحدود والهوية والخصوصيه، فتريده عالم بلا حدود للثراء والتفاوت فى توزيع الثروات، وهنا يأتى دور الساسة فى تسييس الاقتصاديات المحلية بالاتجاهات الليبرالية العالمية.

ويأتى تجمع  أغنياء دافوس هذا العام  متزامناّ مع انهيار سوق البترول و تدهور البورصات والأسواق العالمية التي تشهد تراجعاّ ملحوظًا ؛ فأسواق أسهم المملكة المتحدة واليابان والصين تشهد هبوطا بنسب تقارب 20%عن أعلى مستوى أداء تاريخى مسجل لها.

كما يشهد العالم هذا العام تصاعد أزمة نزوح اللاجئين للدول الأوروبية، والتي تقع في مرمى الكراهية والارهاب والتطرف بفعل السياسة العالمية التى باتت تشكل انحيازًا مطردًا  و جليا  نحو الاستقطاب والتطرف والمنافسة الجيواستراتيجية والنزاعات الإقليمية والعرقية  الجديدة  التى ستؤدي الى تآكل وتفكك  كل من الوحدة والسلام العالميين، فضلًا عن أزمة الديون السيادية التى ضربت العديد من دول العالم كاليونان واسبانيا، مع احتمال تصويت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي هذا العام، والاحتمالات الكبيرة لتفكك الاتحاد الاوربى ،فضلاّ عن حرب العملات العالمية و تفشى البطالة و الفقرعلى الصعيد العالمى.

ولكن تجمع  أغنياء دافوس لا تشغله هذه القضايا  التى لا تؤرق الأثرياء ،لذلك أهمل هذه القضايا و اتخذ من  اتقان الثورة الصناعية الرابعة شعارًا لانعقاده هذا العام ، حيث ستؤدى الثورة الصناعية الرابعة المتمثلة فى الذكاء الصناعي والروبوتات والماكينات الآلية والطباعة ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيا النانو وأدوات الاتصال عن بعد  و العملات الرقمية bitcoin وغيرها من مجالات العلوم الفائقة التقدم الى فتح مجالات واّفاق للتداخل بين القطاعات الاقتصادية لتغيير الحياة بطرق جديدة وغير مسبوقة وستؤثرعلى جميع الصناعات والمجتمعات.

ومن ثم ستؤدى الى المزيد فى كل من التراكم الرأسمالى وتركز الثروات فى يد الأغنياء الذين يملكون مفاصل وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة،أما الفقراء غير الأعضاء فى منتدى أغنى الاغنياء و الذين مازالوا يقفون على أعتاب الثورة الصناعية الثانية – و ربما الأولى – فليس فى مقدورهم الا الانصياع  فقط لاستهلاك منتجات الثورة الصناعية الرابعة بأفدح الأثمان.

ولا يخفى على أحد  قدرة منتدى دافوس على  حشد أكثر الشخصيات  الاقتصادية و السياسية  نفوذاّ و تأثيراّ  في العالم لعقد سلسلة من الاجتماعات السرية والمغلقة والتى تناقش خلالها موضوعات لا تمت بأى صلة للموضوعات و القضايا  المعلنة و المطروحة للنقاش ,من جهة , ومن جهة أخرى, تعقد على هامش تجمع  أغنياء

دافوس الصفقات  المليارية الكبرى التى غالبا ما تعقد بأسم و من وراء ظهر الشعوب المطحونة  والتى لن تتقن من  تقنيات الثورة الصناعية الرابعة الا استخدام التليفون المحمول المزود  بكاميرا سيلفى للتصوير تحت الماء فى استنزاف دخولها القليلة جدا.

و برغم أن منتدى دافوس  يعتبر طبقا  لسند تأسيسه منظمة غير حكومية لا تهدف لتحقيق الربح  وعضويته مفتوحة ومتاحة  لمن يرغب من الشركات ، إلا أن شروط العضوية  فى المنتدى محكومة بعدة شروط  اجبارية و اختيارية  وهى :-

أولا  الشروط الاجبارية:-

1-  إلا يقل دخل الشركة طالبة العضوية عن مليار دولار سنويا .

2-  سداد رسوم اشتراك عضوية سنوى و يبلغ 12500 الف  دولار.

3- سداد رسوم الاشتراك في المؤتمر السنوى و يبلغ 6250  الف دولار.

ثانيا الشروط الاختيارية :-

1-  سداد رسوم الاشتراك في وضع أجندة المؤتمر السنوى قبل انعقاده فتبلغ 250000 الف دولار .

2- سداد رسوم العضوية  الدائمة وتبلغ 78000 الف دولار.

وتكشف شروط العضوية الاجبارية ولاسيما الشرط الأول منها  وبوضوح عن كون هذا المنتدى تجمعاّ  لمصالح كبار الأغنياء فقط , فلا مكان  فيه لغير أصحاب الدخول المليارية.

كما تكشف شروط العضوية الاختيارية و لا سيما الشرط الأول منها  أيضاّ و بجلاء عن سياسات المنتدى التمييزية بين الأعضاء , فمن يدفع ربع مليون دولار من الاعضاء يكون له الحق فى وضع و فرض واملاء أجندة الموضوعات  التى سيناقشهاّ مؤتمره السنوى, ومن لا يدفع الربع مليون دولار من  باقى الاعضاء تفرض عليه الموضوعات جبرا و كأنها سؤالًا اجباريا فى امتحان مادة الاقتصاد السياسى؟

وطبقاّ  لتقرير منشور حديثا لمنظمة أوكسفام ،المنظمة الخيرية العالمية المعنية بمكافحة الفقر والمرض وسوء المناخ  و تضمن الاحصاءات المفزعة التالية:-

1- يسيطر 1 % فقط من سكان العالم  على  50% من الثروات العالمية.

2- يمتلك  80 شخص فقط من أغني أغنياء العالم  ثروات  تقدر بمبلغ 1.9 تريليون دولار

3-  في غضون عدة عقود قليلة قادمة سوف يمتلك  1%  فقط من سكان العالم أكثر مما يملك 99% من باقى سكان الأرض مجتمعين

4- ارتفعت حصة 1% من أغني أغنياء العالم من 44% من الثروات العالمية  فى عام 2009 ،الى  48% من الثروات العالمية في عام 2015 , ومن المتوقع أن ترتفع الى  50% من الثروات العالمية  فى عام 2016.

5- انخفض عدد أغنى الأغنياء الذين يملكون ثروة تعادل نصف ما يملكه سكان العالم (حوالى 3.5 مليارات نسمة) خلال سنة واحدة  فقط من85 شخص إلى 80 شخص

6- ارتفعت ثروة  أغنى 80 شخص فى العالم من  1.3 تريليون دولار فى عام 2010 الى 1.9 تريليون دولار فى عام 2014 بزيادة قدرها 600 مليار دولار خلال اربعة سنوات فقط و بنسبة 50 % مقارنة بسنة الأساس 2010.

و تعكس هذه الاحصائيات تصاعد  حدة تركز الثروات و اختلال توزيع الدخول على النطاق العالمى بفعل اهمال الجانب الاجتماعى لسياسات ألة الرأسمالية العالمية الاستثمارية و التجارية التى  تعترف  بالجوانب المادية فقط لعلم الاقتصاد و تنكر الجوانب الاجتماعية له , برغم أن علم الاقتصاد  – بحسب نشأته و تطوره – يعد علماّ اجتماعياّ , فهو ملكة العلوم الاجتماعية ، ولا يمكن أن يكون علماّ مادياّ مجرداّ , كما يريده أغنى أغنياء العالم و ساسته المؤتمرين فى دافوس.

و لتحقيق أهداف لثورة الصناعية الرابعة شارك فى تجمع  أغنياء دافوس هذا العام جمع غفير من الأغنياء و صناع القرار يتكون من :-

1-  140 من رؤساء الدول والحكومات وكبار المسؤولين السياسيين

2-  1500  رجل أعمال  من الحجم المليارى

3- 2500 شخص من أكثر من 100 دولة من ذووى الأيديولوجية الليبرالية المفرطة.

4- لا يشارك فى المنتدى ويغيب عنه تماما 99.99% من سكان العالم لأنهم غير مستوفين لشروط العضوية  من فئة مليار دولار.

ويجدر بنا التنويه الى حضور وفد من رجال بنوك  وول ستريت صناع الأزمة المالية العالمية طبعة 2008 والمغذية لأزمة الديون السيادية القنبلة الموقوتة القابلة للانفجار فى أى وقت، والتى ستجر العالم  حتما الى أزمة ائتمان عالمية  حادة لن يجدى معها اعادة ترقيع الألة الرأسمالية للاقتصاد الغارق فى  الديون.

ومن المهازل العالمية أن يتحول منتدى دافوس الى ساحة للدعاية الانتخابية و للتنافس السياسى على مقعد رئاسة الولايات المتحدة الامريكية ,حيث يحضر فعاليات المنتدى هذا العام  المرشح الرئاسى الامريكى الكارثة دونالد ترامب ليسوق نفسه كرئيس لدولة تملك أكبر اقتصاد فى العالم بين صفوف المؤتمرين، هذا المرشح المفلس سياسياّ والذى يقدم نموذج فى التهريج السياسى لا يصلح الا  لأدارة سيرك درجة ثالثة و ليس لادارة دولة عظمى، ويذكرنا نحن العرب  بعصر معمر القذافى وأهازيجه السياسية ، فكل مؤهلاته أنه رجل فاحش الثراء، وربما يؤهله هذا الثراء الفاحش  ليسوق نفسه  كرئيس للولايات المتحدة  أمام  منتدى دافوس تجمع  أثرياء الواحد من مليون فى المائة 0.000001 % ،وربما يؤهله هذا الثراء الفاحش أيضاّ للترشح لانتخابات الرئاسة الامريكية , ولكن اذا أهله  ثراؤه هذا  ليفوز بمنصب الرئيس , فستعرف حتماّ الولايات المتحدة قريباّ جدأ الانقلابات العسكرية و الاطاحة بالرؤساء!!

وفى سابقة تاريخية  شارك د. شوقي علام- مفتي الجمهورية كأول قيادة دينية اسلامية  في الاجتماع السنوي لمنتدى دافوس بدعوة رسمية من رئيسه  ليحاضر أمام المشاركين في المنتدى عن مفاهيم الإسلام الصحيح والتواصل وبناء الجسور بين الحضارات والثقافات وإرساء مفاهيم السلام والتعايش بين الأديان، وضرورة التمييز بين رسالة الإسلام النبيلة التي تتمثل في الرحمة والسلام، وبين المغالطات والممارسات التي ظهرت من المتطرفين والإرهابيين الذين  يشوهون تعاليم الإسلام  السمحة , كما يطرح رؤية الدولة المصرية في مكافحة التطرّف والتحذير من الخطاب العدائي ضد المسلمين .

و بطبيعة الحال , تأتى هذه الدعوة التاريخية فى اطار سياسات تجميل المنتدى بالتسامح و القيم الروحية التى لا مجال لها فى عالم المال و الأعمال و الثراء الفاحش فى ظل عولمة  اقتصادية جامحة قوامها رأسمال  لا جنسية  له ولا دين ،حيث أدت ممارساته الاحتكارية الى اختلالات فلكية و متصاعدة فى توزيع الثروات و الدخول على النطاق العالمى مما ينذر بعواقب و خيمة  تهدم  فكرة العدالة الإنسانية الى الأبد.

CNA– بقلم ،، أحمد الألفى ، الخبير المصرفى المصرى

[box type=”info” ]الكاتب .. مصرفى يعمل مديرًا بأحد البنوك المصرية .. له مؤلفات عديدة فى المجالات المصرفية والمالية [/box]

 

موضوعات ذات صلة
أخبار كاش